• ×
الجمعة 22 نوفمبر 2024

ورحلت أمي

بواسطة الكاتبة : فوزية الشيخي 08-21-2018 10:27 صباحاً 760 زيارات
صوت المدينة - فوزية الشيخي

كنت بزيارة لأمي قبل رحيلها بثلاثة أيام زرتها صباحاً كعادتي، لأنها تحب الصباح وتحب الاستيقاظ باكراً رحمها الله، لذلك جرت العادة لدي أن ألبي رغبتها وأقوم بزيارتها صباحاً، زرتها ذلك اليوم ولم أكن أعلم أنه سيكون اليوم الأخير الذي أراها فيه كانت لا تزال مريضة ومنهكة، ولكنها كانت تتظاهر أمامي بأنها بصحة جيدة ولكني رأيت اعياءها وتعبها بادياً على وجهها الطيب.

جلست معها نتجاذب أطراف الحديث وكانت تخبرني عن زيارتها لإحدى جارتها اللاتي توفي عنها زوجها، وأنها ذهبت إليها لتقوم بواجب العزاء بالرغم من مرضها، ولكنها أمي التي ما

أن تسمع عن شخص بأنه مريض أو به شيء إلا وتقوم بزيارته على الفور. أخبرتني بأمور كثيرة أخذت تخبرني عن حياتها في السابق وعن قصص الأولين وذكرت لي أسماء لأشخاص لا أعرفهم، وسردت لي حكايات قديمة وكانت سعادتها لا توصف وهي تحكي لي ذلك ورأيت ذلك باديا على وجهها؛ أحببت ذلك كثيراً وهو أنني أرى أمي سعيدة بذلك اليوم.

بعد ذلك أخبرتها بأنني سأغادر لأن لدي بعض الأشغال علي انهاءها، ودّعتها وقبّلت رأسها وكفّيها وهممت بالمغادرة، ولكنها أبت إلا أن تقوم لتوديعي ورأيتها متثاقلة تجرّ أتعابها وهدّة المرض خلفها؛ لتودعني وأنا أخرج من باب المنزل، لا زلت أذكر تلك النظرة التي لن أنساها ما حييت؛ كانت تنظر لي نظرة غريبة لم أفهمها حينها مع وابلٍ من الدعوات الجميلة منها، لم أكن أعلم أنها ستكون نظرتها الأخيرة لي، فهمت لاحقاً أنها كانت تودعني الوداع الاخير بتلك النظرات.

وبعد ثلاثة أيام فقط من زيارتي لها جاءني ذلك الاتصال فجراً يخبرني أن أمي رحلت عن الدنيا!

لم أستوعب الخبر في بادئ الأمر كأنني أحلم، لم أكن أعي أني مستيقظة وأسمع تلك العبارة التي اخترقت أذني كـرصاص مدفع لم تعد قدماي حينها تحملني؛ كنت كمن هوت بي الأرض بكبرها لا أعرف حتى هذه الساعة كيف خرجت من منزلي وكيف وصلت إلى منزل أمي، لم أشعر بالطريق ولا بكيفية خروجي أو حتى دخولي لمنزل والدتي، شعرت فقط حينما رأيت جسدا مُسدى على الأرض مغطى دون حراك، جلست بجوار رأسها أقبله وأتحسس جسدها البارد، أتأمل يديها التي قبلتها قبل أيام وهي ممسكة بي لا تكاد تريد أن أفلتها، أيقنت أنها أمي هذه هي أمي التي ترقد بسلام تام وبهدوء قاتل، لأول مرة أرى منزلها وكأنه قبر في لحظات فقط؛ رأيت كل شيء حولي يعتريه الذبول، كل شيء باهت الجدران، الأرضيات وحتى الأبواب كل شيء اكتسى بوشاح قاتم للغاية، لم أشعر أنني بمنزل والدتي وأنني أجلس بجوار جثمانها الطاهر.

حاولت أن ألملم نفسي ورباط جأشي وأن أتحامل على نفسي، مع كم الانهيارات التي كانت بداخلي حينها؛ إلا أنني أبيت إلا أن أرافقها لغرفة غسيل الأموات، مع العلم أنني حينما أرى عربة نقل الأموات تسير بالطريق أنهار وأغمض عيني فوراً، فما بالي الآن وأنا أدخل بقدماي إلى غرفة التغسيل وليس فقط رؤية عربة بالطريق.

ذهبت إلى غرفة غسيل الموتى ودخلتها بالفعل، مرور بممر طويل جدا وضيق تملاه رائحة الموت بحثت بنظري وإذا بي أرى جسد أمي مسجى على ذلك الشيء الذي تتم عملية الغسل عليه، انه لأمر أصعب ما يكون على النفس، وهل هناك أشد من هذا الأمر الجلل الذي أراه أمامي سبحان من له الدوام. قامت المرأة التي سوف تقوم بعملية غسل والدتي بالتجهيز لذلك، وطلبت مني المساعدة ولم أتأخر أبداً، وكنت أستغرب من نفسي سبحان من ربط على قلبي حينها، سبحان من نزع الخوف والهلع من داخلي، كنت حينها في حضرة الموت وكنت أهيء نفسي وأخبرها بأن تكون صلبة قوية مؤمنة بقضاء الله وقدره، وأن لا رادّ لأمر الله وألا مجال للخوف أو التراجع أو حتى التردد. تقدمت نحو المرأة المُغسِّلة أسألها عما طُلب مني أن أفعله، أرشدتني أن أقوم بقص أظافر أمي ومن ثم تظفير شعرها ومن ثم مساعدتها بتجهيز طبقات الكفن وقصّه، وبعد ذلك القيام بمساعدتها بعملية الغسل كاملة وتم ذلك بحمد الله وانتهينا من غسل والدتي بوقت قياسي جداً وذلك بفضل الله وتم وضعها على نعشها تجهيزا للصلاة عليها.

انها الدنيا التي أخذت منا كل مأخذ، هي الدنيا التي لا بقاء فيها ولا رجاء هذه الحياة هي رحلة ولكنها ليست أي رحلة، رحلة قد تطول وقد تقصر، وكل ذلك بأمر الله وليس لنا يد نحن كبشر في اختيار متى تنتهي رحلتنا بالحياة، كلنا مُغادرون وكلنا راحلون في يوم لا يعلمه إلا الله ولا يدري بساعته وتاريخه سواه، هكذا هي سنة الله في كونه وليس لنا حق الاعتراض فيما يكتبه الله من مقادير.

أماه ليتك رأيت ورأى معي كل من قبّل جبينك الطاهر بياض الطهر في عينيك وأنتِ مُسجاة على لوح الغسيل تفوح منك رائحة المسك والعنبر، وكأنك تنتظرين بشوق لمن ستذهبين اليه، وليتك رأيت من أدى الصلاة عليك ومن تسابقوا لإلقاء النظرة الأخيرة على قبرك.

اللهم بلّغ أمي مني السلام وأجزها عني خيراً، واجعل عملي الصالح في ميزان حسناتها، وأهدها بهدية من عندك، اللهم قد سلمت لك الروح وانقطعت الأسباب إلا سبباً موصولا بك، فاللهم أكرم نزلها ووسع مدخلها واغسلها بالماء والثلج والبرد، واجمعني بأمي في مستقر رحمتك في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر.

جديد المقالات

الإداري الناجح اليوم يجب أن يتمتع بعدة مهارات وخصائص. أولاً : القدرة على التكيف مع التغيرات...

قصيدة بمناسبة اليوم الوطني السعودي من يلمني في هواه أَأُلام بعشقي لترابِه زاد أمني في...

قصيدة بمناسبة اليوم الوطني يا وطني يا تاج العز علا هامي والكل يراه يا وطني أفديك بروحي...

تلعب الإدارة الناجحة دورًا حاسمًا في نمو ونجاح أي منظمة. لأنها تنطوي على مزيج من التواصل الفعال ،...

لم تخلق الجهات الأربع عبثاً؟! إنها إشارة إلى حرية أن يكون لنا خيارات في هذه الوسيعه حين نقف...

أكثر