صمت العالم بين السادية و المازوخية
صوت المدينة - بشرى الأحمدي
وسط كل الدمار الذي يحدث على صعيد الحروب والقتل والتشريد و التنمر الاجتماعي و القرارات المجحفة بحق البدون و غيرهم، أحاول ايجاد تفسير مقنع فالتفسيرات أحياناً تخدّر احساسنا بالوجع وهذا ما أرجوه من خلال هذا المقال. التفسير الذي أبحث عنه هنا ليس لأولئك الذين يفعلون بل الذين يختارون الصمت ازاء الأفعال الموجعة فإن لوثر كينغ يقول: المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار .."
أود التنويه على أمرين هنا. أولهما أن التفسير يختلف عن التبرير فحين أفسر دوافع القاتل أنا لا أبرر فعلته أبداً.
وثانياً: هذا المقال هو تفكير بصوتٍ عالٍ وليس حقائق يُستند عليها.
إن السبب الأول الذي يخطر ببالي كقارئة للأدب و متابعة نهمة للأفلام هو أن البشر يستمتعون بالمآسي و تزيد لديهم المتعة حين يتفرجون على معذبين غيرهم وهذه الفكرة أوردتها آذر نفيسي في مراجعتها لرواية لوليتا على هيئة تساؤل : كيف نستمتع بقصة رجل يغتصب طفلة ذات ١٢ عاماً ونعتبرها من روائع الأدب؟!
لكني سرعان ما استبعدت هذا الاحتمال لأنه يصعب التصديق أن كوكباً كاملاً يعجّ بالمعتلين النفسيين.
وهذا يأخذني الى السبب الثاني: إن البعض يعتقد أن مايحدث هو أمر متعود وتطور طبيعي للتاريخ وثمن تدفعه الشعوب لتشكيل تاريخ جديد. يؤمنون أن الوجع والصراع جزء مهم من الحياة و يرون أن محاولة صدّه أو تغييره مضيعة وقت فسنّة الحياة تقتضي أن يتعايش الناس مع تعذيب الآخرين لهم و تحكم السلطة في مصائرهم. حين تعرضت جودي بلانكو للتنمر الشديد في المدرسة الذي وصل الى حدود الأذى الجسدي قامت المديرة بإخبار والديها أن إبنتهما لديها مشكلة في تقبل (تصرفات الأولاد المعتادة) وقام الوالدان بدورهما بأخذ ابنتهما الى طبيب نفسي كان يحاول خلال الجلسات تفهّم لماذا لم تتقبل جودي ايذاء الأولاد لها كما يجب!
لقد ظنّ كل من حولها أن العنف اللفظي والجسدي جزء من المجتمع الأمريكي الذي يجب تقبله دون محاولة أخذ الصبية المتنمرين الى مراكز علاج نفسي لفهم عدائية سلوكهم. تركوا الجلاد و عاقبوا الضحية لأنها لم تصمت كما يجب، لأنها قاومت وهذا ماينطبق على كل فعل ثوري ضد الظلم والخطأ.
أما السبب الثالث فـ (صدق أو لا تصدق) أن البعض يرى أن هناك مبررات من الضحية تدفع بالمجرم الى ارتكاب الأذى تجاهه. فمنذ كنتُ صغيرة وأنا أسمع أن اللبنانيين فسقوا بالنعمة فسلط الله عليهم اسرائيل !
وفي خراب العراق يقول كثيرون أن العراقيين أهل تمرّد و عصيان و لا يفيد معهم الا حاكم طاغية !
وأخيرا تنوعت الآراء بشأن مايحدث في سوريا من قتل وتعذيب و تهجير فهناك من قال أن الفتيات السوريات لم يكنّ محتشمات وهناك من قال أن الشعب السوري استفزّ النظام فليذوقوا وبال فعلتهم!
وأنا أقف مذهولة من قدرة البشر على ايجاد مسوغات لألم طفل رضيع و اختناقه و تجويعه و تشريده عن بيته.
و ذلك لا يقتصر فقط على الحرب بل يتعداه ليشمل معاملة العمال الأجانب بقسوة و التفاخر بذلك في المجالس مع سوق تبريرات من نوع "لا يتأدبون الا بهذه الطريقة" أو "ماينفع تعطيهم وجه"
ويهزّ الحاضرون رؤوسهم تأييداً و إعجاباً.
إن بداخل كلٍ منا وحشاً صغيراً لا يرى نفسه وحشاً. نحن نلعن المتسلطين لكن حين يقع واحد منهم في مصيبة أو مرض فنحن نفرح!
كما قال الكاتب دوستويفسكي:"إن الإنسان يحلو له أن يرى رجلا يسقط ويتلطخ شرفه"
والمشاهير حين تسقط أقنعتهم وتظهر لهم مقاطع ڤيديو فاضحة ، نتسارع الى تبادلها مقنعين أنفسنا أنهم يستحقون ذلك نظراً لتزييفهم الحقائق و ادعاءاتهم الكاذبة !
و رأينا جميعنا أنه حين سقط الحكام في أيدي العامة أذلوهم و أهانوهم بل وقتلوهم كما حدث مع معمّر القذافي الرئيس الليبي الأسبق وشعرنا جميعاً بالراحة لأنه "نال جزاءه". فدائرة الأذى تدور وحين تصل الينا لا نحاول ايقافها بل نرى أن هناك سبباً عظيماً لوصولها الينا و هو القصاص فنرتكب ذات الجرائم دون وعي منّا، فهل نلوم من يسيء للآخرين فقط لأننا لا نرى المسوّغ الذي لديه؟ و هل نترك آخرين يؤذون غيرهم لأن مبررهم يبدو واضحاً لنا؟ هل معيارنا الأخلاقي تحكمه فكرة الانتقام فقط؟ أم أننا نحترم الانسان أياً كان هذا الانسان وأياً كان ما فعله؟
ثم أخيراً أصل الى السبب الرابع والذي يبدو لي أكثر منطقية من سواه وهو الإحساس بالعجز الفردي إزاء ما يحدث و لوم السلطات العليا. كل فرد يلعن في بيته "أصحاب القرار" الذين يقفون صامتين أمام هذا الوجع وينسون أن كل فرد حر هو صاحب قرار أيضاً.
لكنها تبدو فكرة مريحة جداً، أعني أن الأمر ليس بيدنا و وحدهم المسؤولون سيدخلون النار وسيحاسبون على صمتهم و رضاهم. فكرة تطبطب على ضمائرنا و تجعلنا ننام ليلاً بعد سلسة أخبار و صور توثّق المجازر و تغريدات في تويتر تعرض الإساءات التي يمارسها الأكثرية على الأقلية.
فماذا عساني أقول و تفكيري وحده ألهمني أربعة أسباب ليستمر العالم في رضاه الضمني عن الألم؟ و هل أرجو أن تتوّحد مطالب العالم بمعجزة ما لوقف جهة واحدة و شخص واحد ؟ أم أن كل فئة تنظر الى جهة مختلفة عن الأخرى و تتمنى لو تُبيدها كي يحلّ السلام؟
وسط كل الدمار الذي يحدث على صعيد الحروب والقتل والتشريد و التنمر الاجتماعي و القرارات المجحفة بحق البدون و غيرهم، أحاول ايجاد تفسير مقنع فالتفسيرات أحياناً تخدّر احساسنا بالوجع وهذا ما أرجوه من خلال هذا المقال. التفسير الذي أبحث عنه هنا ليس لأولئك الذين يفعلون بل الذين يختارون الصمت ازاء الأفعال الموجعة فإن لوثر كينغ يقول: المصيبة ليست في ظلم الأشرار بل في صمت الأخيار .."
أود التنويه على أمرين هنا. أولهما أن التفسير يختلف عن التبرير فحين أفسر دوافع القاتل أنا لا أبرر فعلته أبداً.
وثانياً: هذا المقال هو تفكير بصوتٍ عالٍ وليس حقائق يُستند عليها.
إن السبب الأول الذي يخطر ببالي كقارئة للأدب و متابعة نهمة للأفلام هو أن البشر يستمتعون بالمآسي و تزيد لديهم المتعة حين يتفرجون على معذبين غيرهم وهذه الفكرة أوردتها آذر نفيسي في مراجعتها لرواية لوليتا على هيئة تساؤل : كيف نستمتع بقصة رجل يغتصب طفلة ذات ١٢ عاماً ونعتبرها من روائع الأدب؟!
لكني سرعان ما استبعدت هذا الاحتمال لأنه يصعب التصديق أن كوكباً كاملاً يعجّ بالمعتلين النفسيين.
وهذا يأخذني الى السبب الثاني: إن البعض يعتقد أن مايحدث هو أمر متعود وتطور طبيعي للتاريخ وثمن تدفعه الشعوب لتشكيل تاريخ جديد. يؤمنون أن الوجع والصراع جزء مهم من الحياة و يرون أن محاولة صدّه أو تغييره مضيعة وقت فسنّة الحياة تقتضي أن يتعايش الناس مع تعذيب الآخرين لهم و تحكم السلطة في مصائرهم. حين تعرضت جودي بلانكو للتنمر الشديد في المدرسة الذي وصل الى حدود الأذى الجسدي قامت المديرة بإخبار والديها أن إبنتهما لديها مشكلة في تقبل (تصرفات الأولاد المعتادة) وقام الوالدان بدورهما بأخذ ابنتهما الى طبيب نفسي كان يحاول خلال الجلسات تفهّم لماذا لم تتقبل جودي ايذاء الأولاد لها كما يجب!
لقد ظنّ كل من حولها أن العنف اللفظي والجسدي جزء من المجتمع الأمريكي الذي يجب تقبله دون محاولة أخذ الصبية المتنمرين الى مراكز علاج نفسي لفهم عدائية سلوكهم. تركوا الجلاد و عاقبوا الضحية لأنها لم تصمت كما يجب، لأنها قاومت وهذا ماينطبق على كل فعل ثوري ضد الظلم والخطأ.
أما السبب الثالث فـ (صدق أو لا تصدق) أن البعض يرى أن هناك مبررات من الضحية تدفع بالمجرم الى ارتكاب الأذى تجاهه. فمنذ كنتُ صغيرة وأنا أسمع أن اللبنانيين فسقوا بالنعمة فسلط الله عليهم اسرائيل !
وفي خراب العراق يقول كثيرون أن العراقيين أهل تمرّد و عصيان و لا يفيد معهم الا حاكم طاغية !
وأخيرا تنوعت الآراء بشأن مايحدث في سوريا من قتل وتعذيب و تهجير فهناك من قال أن الفتيات السوريات لم يكنّ محتشمات وهناك من قال أن الشعب السوري استفزّ النظام فليذوقوا وبال فعلتهم!
وأنا أقف مذهولة من قدرة البشر على ايجاد مسوغات لألم طفل رضيع و اختناقه و تجويعه و تشريده عن بيته.
و ذلك لا يقتصر فقط على الحرب بل يتعداه ليشمل معاملة العمال الأجانب بقسوة و التفاخر بذلك في المجالس مع سوق تبريرات من نوع "لا يتأدبون الا بهذه الطريقة" أو "ماينفع تعطيهم وجه"
ويهزّ الحاضرون رؤوسهم تأييداً و إعجاباً.
إن بداخل كلٍ منا وحشاً صغيراً لا يرى نفسه وحشاً. نحن نلعن المتسلطين لكن حين يقع واحد منهم في مصيبة أو مرض فنحن نفرح!
كما قال الكاتب دوستويفسكي:"إن الإنسان يحلو له أن يرى رجلا يسقط ويتلطخ شرفه"
والمشاهير حين تسقط أقنعتهم وتظهر لهم مقاطع ڤيديو فاضحة ، نتسارع الى تبادلها مقنعين أنفسنا أنهم يستحقون ذلك نظراً لتزييفهم الحقائق و ادعاءاتهم الكاذبة !
و رأينا جميعنا أنه حين سقط الحكام في أيدي العامة أذلوهم و أهانوهم بل وقتلوهم كما حدث مع معمّر القذافي الرئيس الليبي الأسبق وشعرنا جميعاً بالراحة لأنه "نال جزاءه". فدائرة الأذى تدور وحين تصل الينا لا نحاول ايقافها بل نرى أن هناك سبباً عظيماً لوصولها الينا و هو القصاص فنرتكب ذات الجرائم دون وعي منّا، فهل نلوم من يسيء للآخرين فقط لأننا لا نرى المسوّغ الذي لديه؟ و هل نترك آخرين يؤذون غيرهم لأن مبررهم يبدو واضحاً لنا؟ هل معيارنا الأخلاقي تحكمه فكرة الانتقام فقط؟ أم أننا نحترم الانسان أياً كان هذا الانسان وأياً كان ما فعله؟
ثم أخيراً أصل الى السبب الرابع والذي يبدو لي أكثر منطقية من سواه وهو الإحساس بالعجز الفردي إزاء ما يحدث و لوم السلطات العليا. كل فرد يلعن في بيته "أصحاب القرار" الذين يقفون صامتين أمام هذا الوجع وينسون أن كل فرد حر هو صاحب قرار أيضاً.
لكنها تبدو فكرة مريحة جداً، أعني أن الأمر ليس بيدنا و وحدهم المسؤولون سيدخلون النار وسيحاسبون على صمتهم و رضاهم. فكرة تطبطب على ضمائرنا و تجعلنا ننام ليلاً بعد سلسة أخبار و صور توثّق المجازر و تغريدات في تويتر تعرض الإساءات التي يمارسها الأكثرية على الأقلية.
فماذا عساني أقول و تفكيري وحده ألهمني أربعة أسباب ليستمر العالم في رضاه الضمني عن الألم؟ و هل أرجو أن تتوّحد مطالب العالم بمعجزة ما لوقف جهة واحدة و شخص واحد ؟ أم أن كل فئة تنظر الى جهة مختلفة عن الأخرى و تتمنى لو تُبيدها كي يحلّ السلام؟