العالم في كفك

صوت المدينة - منال التميمي

حين أمرر ابهامي إلى الأعلى
بسرعة كبيرة على شاشة هاتفي النقال
لأعود إلى صورة قديمة في ألبوم الصور
وكأنه عدادٌ الكتروني سريع جداً فقد السيطرة
أنا لا أمر على مربعاتٍ ملونة بصيغٍ متناهية في الدقة فحسب
أنا أمر على أيامٍ ماضية
أوقاتٍ مختلفة
نهار وليل
صيف وشتاء
أمر على ذكرياتي الدافئة
التي اقتنيتها بحب.. من أيامٍ مضت ولن تعود
أمر على أماكن وفراغاتٍ متعددة
أرض .. بحر و سماء
أمرُ عليّ وأنا أبتسم للكاميرا .. أعرف تماماً ماكنت أفكر وأشعر به حينها
ألمس تماماً ماإذا كانت ابتسامتي الحقيقية أو ابتسامة صفراء في يومٍ رمادي
والكثير الكثير من صور الورد .. وفناجين القهوة
أو ابتسامة طفل أو أناقته في كرنفال فرح
والعديد من لقطاتِ حلوى العيد و(حِنا) العيد .. وهديةِ العيد
وصورٍ أخرى لثقافة (الشوارع) البسيطة والعميقة
وطريقٍ مزينٍ بالانوار المتراصة على رصيفٍ وفيٍ لخطوات الأوفياء
الذين ساروا عليه منصتين لحديث أصابعهم المتشابكة
أو غلاف كتاب متخم بالفلسفة والنور
أو اقتباسٍ لعبارة كتبت وكان لابد أن توثق
وتمرُ عليها العين بين الحين والحين

لقد تجاوزت بحركة اصبعي السريعة أعواماً وليست أيام فقط
فمع التقدم التكنولوجي تستطيع نقل ملفاتك الإلكترونية معك
عبر برامج التخزين السحابية أينما تريد
لم تعد ترحل ذاكرتك الإلكترونية مع رحيل الجهاز المتعطل المكتظ بمقتنياتنا المختلفة
أنقر بخفة على صورةٍ صغيرة فتتمدد وتكبر وتلغي ماحولها
لم اعد بحاجة لتذكر متى كانت ! وأين كانت ؟
فالذاكرة الذكية اصبحت تنافسنا بل وتتفوق علينا
ربما لو شعرت هذه الشاشات المضيئة بطاقة المشاعر المنبعثة من أعيننا
من نوافذ الروح فينا ..
المترقرقة بدمعات الذكرى الدافئة .. لأضاءت اكثر ربما او خفتت اكثر وانطفئت ..كإشارة تنبيه تخبرنا أنها تشعر بنا
او ربما لتشتت انتباهنا تعاطفا منها علينا..
اشكرها كثيرا لانها قدمت إليّ صلاحية الحذف بسهولة كبيرة
للحظاتٍ وثقتها يوما فتحولت إلى مادةٍ شديدة السُمية !
تستأذنني لتتأكد من رغبتي الحقيقية في الحذف،
فهي سريعة جدا في تنفيذ الاوامر
بثبات اكثر وصدقٍ اكثر اسمح لها بذالك.


انا أحمل ذكريات الأعوام في كفي
انا احمل هويتي وهواياتي.. واصدقائي وكتبي
ممتنة كثيرا لعبقرية و أناقة هذه الأجهزة
تصفف لنا لحظاتنا المبعثرة
و تذكرنا بمواعيدنا المنسية
ندون بها ملاحظاتنا خشية نسيانها
وملاحظاتٍ نكتبها كتماناً خشية الثرثرة مع الأخرين بها.
ممتنة لكل نقرة تفتح لي بوابة الزمان والمكان
فتأخذني تارة إلى كوخ ثلجي في شمال العالم
يحيط به قبائلٌ أحبت اللون الأبيض والجليد والفراء
او أرجوحةٍ بين شجرتين رطبتين على جزيرةٍ تحتضنها مياه المحيط
لاتسمع إلا صوت الأمواج والنوارس
او على طاولة أنيقة لاتعرف سوى الكتب والأقلام وأكواب القهوة لكاتبٍ مرموق اعتزل العالم وبنى بيته العصري قريبا من جبال الألب

هو أبعد من كونه هاتف نقال
اصبح كتاب ، تذكرة سفر
حقيبة ألمٍ و مصنع أمل ، حاسبة
متجر،ألبوم صور ، مرسم
موسوعة ، صومعة ، غصن
عالمك الخاص الذي تملئه بما تحتاج وتهوى
انه يُفصلك اكثر .. يُجزءك ويحللك من حيث لاتعلم
تخيل لو تمسك بجهاز أحدهم
مختلف تماما عن اي جهازٍ اخر
ستحدد توجهاته السياسية وميوله الرياضية والأدبية
والجوانب السرية التي يخفيها
والبقع العمياء التي يجهلها
سترى أحبته المقربين جدا منه
الشخصيات المشهورة التي يحبها
والشخصيات التي عرفها للتو
الألوان التي يفضلها
واللغات التي يعرفها
والعلاقات الكثيرة جدا او القليلة جدا التي يتواصل معها
المهارات التي يجيدها
والبرامج التي يستخدمها
وأعماله الواجب ان يؤديها مجبراً
والتي يصوغها محباً ومغرماً..

عالمٌ شاسع جدا أُختُزل في كفك
هو هويتك التي ترى ذاتك من خلالها
تأمله أكثر اقصد تأمل ذاتك أكثر !
تعرّف عليها من جديد ..