" وإذا مرضت فهو يشفين "
يحتاج المرء بين فترة وأخرى لأن يريح أعصابه من ضغوطات الحياة ، ويبحث عن طرق يخفف عن نفسه نتوءات المعاناة ، ويغسل ثيابه من غبار المواجهات بالدمع إن لم يجد المياه ، ويمسح على قلبه من رضوض الإصابات برفق وأناة ، ويهدهد جسده بالتوقعات التي يرجوها مناه ، ويطبطب على صدره بكلمات لا تنطقها الشفاة ...
فيتجول في الأرجاء ، باحثاً عن مخارج توفر له ما رجاه ، وتحقق ما تمناه .. .
وقد تكون تلك مخارجاً من الشقاء ، ومداخلاً حيث الهناء ، وقد تنقله تلك اللحظات من قاع الكبت إلى كبد السماء ، ومن ضيق الهم إلى اتساع الفضاء ، ومن ضغط الحزن وانفجار البكاء ، إلى فيض المزن وانفراج العناء ، ومن سخط و صراخ ، إلى ترنم وغناء ... .
وحتى يحصل على هذا الجزاء ، عليه أن يدلي الدلاء ، وبملئها يرجو ارتواء ...
فهناك من يلجأ للحدائق ، وينتقي منها روضاً ، فيلقي بجسده على مروجه ، ويستقي من الزهر أريجه ، ومن الهواء ما يشعل أجيجه ، ويُسْكِت من ترانيمه ضجيجه ، فيعود سالما وقد أزاح همه ، وأعلن تفريجه ، وأزال صوت بكائه ببعض أهازيجه ، ونال راحة وهدوءاً وما أجمل مزيجه ، فتجدد نشاطه وما أروعها من نتيجة .. .
وهناك من يقصد البحر ليتحدث مع أمواجه ، فيشكو لها من دربه واعوجاجه ، والذي أعاده بخيبةٍ أدراجه ، أو دائه الذي صعب علاجه ، أو زرعه الذي ضاع خراجه ، أو ماله الذي أبخسه حراجه ، أو ظروفه التي تتعمد إحراجه ، فلم تأتِ حسب مزاجه ، فأُغلِقَت الأبواب بوجهه ، وكأن مفتاحها تاه عن مزلاجه ، فلم يستطع رغم مهاراته إيلاجه ، فأصبح موصداً بحكم رتاجه ، فزاد همه وما لاح في الأفق ضوء انفراجه ، فكأن ضوءها لا يريد سراجه ، فصار كالراعي الذي أضاع نعاجه ، والمصباح الذي تهشم زجاجه ، والنسيم الذي تبدد في عجاجه ، والبناء الذي تهدم سياجه ، والعريس الذي مات قبل زواجه ، ليس مقتولاً ليعرف من يواجه ، ولا مغدوراً ليجد من يجابه ، فهو القضاء وذاك منهاجه ...
وهاهي الأمواج تتتبع خطاه ، وتسمع شكواه ، لتردد صداه ، وتعرض فحواه ، لتخرج بلواه ، فهو يحكي ، والأمواج تسمع ، وهو يسرع وهدير الماء أسرع ، فيبتسم بعد أن كان بالبكاء يشرع ، ويلتئم جرحاً كان فيه قد اتسع ، وعاد فرحاً فهو للحزن وضع ، كانت زيارة للعلاج ، وهو حقا قد نفع ، وما زال في البحر لغيره متسع ، لكل مهموم جمع ، ومَن مِن العثرة وقع ، ومَن مِن الصحب انخدع ، ومَن لفقرٍ ما شبع ، ومِن علاج ما نفع ، ومِن غريب ما رجع ، فاحتواهم جميعاُ وكان مثل المنتجع ...
تشعر وكأن أمواجه تهيأت لاستقبالك ، تصمت تارة لتسمع كلامك ، وتثور أخرى لعتابك ، ثم تتهادى نحوك لاحتوائك ، وبنسماتها تمحو بلاءك ، وبهوائها تنعش أنفاسك ، كأصحابك وأقرب أُنَاسِك ، وبألحانها تغسل قلبك ، وتجبر كسرك ، وتجمع شملك ، وتلم شتاتك ، وتضم رفاتك ، وتنهي رقادك ، وتعيد لك أسلابك ، فرحا وراحة لم تقف دهرا ببابك ، فتعود بحال غير الذي جئتها به ، وكأنها بدلت لك ثيابك ، وكشفت عنك نقابك ، فعالجتك دون أن تطيل عتابك ، وأرجعتك وقد أنهت عذابك ، وأصلحتك على نفسك دون عقابها وعقابك ، فهي الرحلة التي أعطتك جوابك ، وجعلت السعادة في ركابك ، فأصبحت رحاب الابتسام رحابك ، وتغلبت حقيقتك على سرابك .. .
وكأن كثرة البحار على الأرض ؛ لحكمة أرادها الخالق ، فهي الملاذ للمهمومين من الخلائق ، وهم كُثْر ، فكثرت البحار لتحتويهم ، وفاضت وكأنها ارتوت من مآقيهم ، وصدحت أمواجها وكأنها تردد أغانيهم ، أو تعدد شكاويهم ، وهاجت أعاصيرا لتداويهم ، فامتدت لتعطيهم ، وعادت جَزْرا لتحميهم ، ففي كل بحر روايات تزاحم قاعه ، وعلى كل شاطئ حكايات تقصد إمتاعه ، ومواقف تحاول إقناعه ، فإن فعلت وحقق لحلمه إشباعه ، نراه يخفض شراعه ، ويجمع متاعه ، وينادي أتباعه ، وتعود له الوداعة ، وقد مرّت اللحظات سراعاً ، ومن فرحه بدت وكأن الأيام ساعة ، فقد تخلص من حزنه وكأنه باعه ، وأنقذ نفسه من همها وأنهى معها صراعه ، وتزداد سعادته إن رافق تلك اللحظات عبادة وطاعة ، ولم تكن على حساب صَلاتِه وصِلاتِه ، فيسقط من فوهة البئر لقاعه ، ويتضاعف فرحه إن لم يرتكب فيها بذاءة ، ولم يصدر عنه بشاعة ، فيرى بالمكان الضيق وساعة ، وتلك حقيقة ليست إشاعة ، وتنتهي الرحلة بانتهاء أوجاعه ، برقي ليس فيه وضاعة ، بفن ومهارة وبراعة ، عادت له جميل طباعه ، وعاد وكأن الحزن نسيه وفي خضم البحر أضاعه ، وتلك ميزة معروفة عن البحر مُذاعة ، أنه ملجأ المهمومين ، وملاذ المحزونين كالحصن زاد مناعة ، ومن قصده كان واثقاً بأنه سيقضي مع الحزن نزاعه ، وسيقتل في صدره وسواس شيطانه وضباعه ، فإن كان الطب صناعة ، فكل نفس متعبة بطبيبها طماعة ، فتقصد بحرها بشجاعة ، باختلاف الشكوى ، يحتوي أنواعه ، ويشمر الموج لقاصِدِيه ذراعه ، ويصف هديره الدواء في أسماعه ، ويعرض العلاج فلا تطيق دفاعه ، فموجه لخلاصك ظاهر في اندفاعه ، وصوته من خِلالك بادياً في ارتفاعه ، ومدّه أو جَزْره أياً تكن أوضاعه ، تترك رقيق نسيمها يمسح جروح نخاعه ، حتى يلوح بريق الأمل ويَشّع ضوء شعاعه ... .
فهل هناك طبيب أفضل من الطبيعة ، هيأها الخالق لتحتوي مرضاها ... .
وهل هناك مجيب أسرع في الوسيعة ، لمن سأل الإله ، بأمره ناداها ...
وهل هناك غريب ظل غريباً ، وقد أتاه راغباً يرجوه برءاً ، فأعطاه بعض دواها ..
هو الخالق ، وقد جعل الطبيعة ، في الطليعة ، اسمها يتصدر القائمة ، وتكاليف العلاج على من براها ، فلن تضيع وقد قصدته ، ولن تذل وقد رجوته ، ولن تخيب وقد طلبته ...
فسبحان من أوجد الشقاء، ورزقنا سبل الراحة ، ومن أحلّ الداء ، وأراحنا منه بأن فتح لنا المساحة ، فكلنا على أرضه وتحت جناحه ، نتأمل في خلقه ، فهو للمؤمن سلاحُه ، ولكل باب مغلق مفتاحُه ، ولكل صدر مطبق فيه الإزاحة ، فكان هو الطبيب ، وهذا هو العلاج بكل وضوح وبمنتهى الصراحة ، فداء العبد شقاؤه ، ودواء الذاكر فلاحه ، وشفاء المؤمن صلاحه ... .
فذاك هو الباب ، ودونكم مفتاحه ... .
فيتجول في الأرجاء ، باحثاً عن مخارج توفر له ما رجاه ، وتحقق ما تمناه .. .
وقد تكون تلك مخارجاً من الشقاء ، ومداخلاً حيث الهناء ، وقد تنقله تلك اللحظات من قاع الكبت إلى كبد السماء ، ومن ضيق الهم إلى اتساع الفضاء ، ومن ضغط الحزن وانفجار البكاء ، إلى فيض المزن وانفراج العناء ، ومن سخط و صراخ ، إلى ترنم وغناء ... .
وحتى يحصل على هذا الجزاء ، عليه أن يدلي الدلاء ، وبملئها يرجو ارتواء ...
فهناك من يلجأ للحدائق ، وينتقي منها روضاً ، فيلقي بجسده على مروجه ، ويستقي من الزهر أريجه ، ومن الهواء ما يشعل أجيجه ، ويُسْكِت من ترانيمه ضجيجه ، فيعود سالما وقد أزاح همه ، وأعلن تفريجه ، وأزال صوت بكائه ببعض أهازيجه ، ونال راحة وهدوءاً وما أجمل مزيجه ، فتجدد نشاطه وما أروعها من نتيجة .. .
وهناك من يقصد البحر ليتحدث مع أمواجه ، فيشكو لها من دربه واعوجاجه ، والذي أعاده بخيبةٍ أدراجه ، أو دائه الذي صعب علاجه ، أو زرعه الذي ضاع خراجه ، أو ماله الذي أبخسه حراجه ، أو ظروفه التي تتعمد إحراجه ، فلم تأتِ حسب مزاجه ، فأُغلِقَت الأبواب بوجهه ، وكأن مفتاحها تاه عن مزلاجه ، فلم يستطع رغم مهاراته إيلاجه ، فأصبح موصداً بحكم رتاجه ، فزاد همه وما لاح في الأفق ضوء انفراجه ، فكأن ضوءها لا يريد سراجه ، فصار كالراعي الذي أضاع نعاجه ، والمصباح الذي تهشم زجاجه ، والنسيم الذي تبدد في عجاجه ، والبناء الذي تهدم سياجه ، والعريس الذي مات قبل زواجه ، ليس مقتولاً ليعرف من يواجه ، ولا مغدوراً ليجد من يجابه ، فهو القضاء وذاك منهاجه ...
وهاهي الأمواج تتتبع خطاه ، وتسمع شكواه ، لتردد صداه ، وتعرض فحواه ، لتخرج بلواه ، فهو يحكي ، والأمواج تسمع ، وهو يسرع وهدير الماء أسرع ، فيبتسم بعد أن كان بالبكاء يشرع ، ويلتئم جرحاً كان فيه قد اتسع ، وعاد فرحاً فهو للحزن وضع ، كانت زيارة للعلاج ، وهو حقا قد نفع ، وما زال في البحر لغيره متسع ، لكل مهموم جمع ، ومَن مِن العثرة وقع ، ومَن مِن الصحب انخدع ، ومَن لفقرٍ ما شبع ، ومِن علاج ما نفع ، ومِن غريب ما رجع ، فاحتواهم جميعاُ وكان مثل المنتجع ...
تشعر وكأن أمواجه تهيأت لاستقبالك ، تصمت تارة لتسمع كلامك ، وتثور أخرى لعتابك ، ثم تتهادى نحوك لاحتوائك ، وبنسماتها تمحو بلاءك ، وبهوائها تنعش أنفاسك ، كأصحابك وأقرب أُنَاسِك ، وبألحانها تغسل قلبك ، وتجبر كسرك ، وتجمع شملك ، وتلم شتاتك ، وتضم رفاتك ، وتنهي رقادك ، وتعيد لك أسلابك ، فرحا وراحة لم تقف دهرا ببابك ، فتعود بحال غير الذي جئتها به ، وكأنها بدلت لك ثيابك ، وكشفت عنك نقابك ، فعالجتك دون أن تطيل عتابك ، وأرجعتك وقد أنهت عذابك ، وأصلحتك على نفسك دون عقابها وعقابك ، فهي الرحلة التي أعطتك جوابك ، وجعلت السعادة في ركابك ، فأصبحت رحاب الابتسام رحابك ، وتغلبت حقيقتك على سرابك .. .
وكأن كثرة البحار على الأرض ؛ لحكمة أرادها الخالق ، فهي الملاذ للمهمومين من الخلائق ، وهم كُثْر ، فكثرت البحار لتحتويهم ، وفاضت وكأنها ارتوت من مآقيهم ، وصدحت أمواجها وكأنها تردد أغانيهم ، أو تعدد شكاويهم ، وهاجت أعاصيرا لتداويهم ، فامتدت لتعطيهم ، وعادت جَزْرا لتحميهم ، ففي كل بحر روايات تزاحم قاعه ، وعلى كل شاطئ حكايات تقصد إمتاعه ، ومواقف تحاول إقناعه ، فإن فعلت وحقق لحلمه إشباعه ، نراه يخفض شراعه ، ويجمع متاعه ، وينادي أتباعه ، وتعود له الوداعة ، وقد مرّت اللحظات سراعاً ، ومن فرحه بدت وكأن الأيام ساعة ، فقد تخلص من حزنه وكأنه باعه ، وأنقذ نفسه من همها وأنهى معها صراعه ، وتزداد سعادته إن رافق تلك اللحظات عبادة وطاعة ، ولم تكن على حساب صَلاتِه وصِلاتِه ، فيسقط من فوهة البئر لقاعه ، ويتضاعف فرحه إن لم يرتكب فيها بذاءة ، ولم يصدر عنه بشاعة ، فيرى بالمكان الضيق وساعة ، وتلك حقيقة ليست إشاعة ، وتنتهي الرحلة بانتهاء أوجاعه ، برقي ليس فيه وضاعة ، بفن ومهارة وبراعة ، عادت له جميل طباعه ، وعاد وكأن الحزن نسيه وفي خضم البحر أضاعه ، وتلك ميزة معروفة عن البحر مُذاعة ، أنه ملجأ المهمومين ، وملاذ المحزونين كالحصن زاد مناعة ، ومن قصده كان واثقاً بأنه سيقضي مع الحزن نزاعه ، وسيقتل في صدره وسواس شيطانه وضباعه ، فإن كان الطب صناعة ، فكل نفس متعبة بطبيبها طماعة ، فتقصد بحرها بشجاعة ، باختلاف الشكوى ، يحتوي أنواعه ، ويشمر الموج لقاصِدِيه ذراعه ، ويصف هديره الدواء في أسماعه ، ويعرض العلاج فلا تطيق دفاعه ، فموجه لخلاصك ظاهر في اندفاعه ، وصوته من خِلالك بادياً في ارتفاعه ، ومدّه أو جَزْره أياً تكن أوضاعه ، تترك رقيق نسيمها يمسح جروح نخاعه ، حتى يلوح بريق الأمل ويَشّع ضوء شعاعه ... .
فهل هناك طبيب أفضل من الطبيعة ، هيأها الخالق لتحتوي مرضاها ... .
وهل هناك مجيب أسرع في الوسيعة ، لمن سأل الإله ، بأمره ناداها ...
وهل هناك غريب ظل غريباً ، وقد أتاه راغباً يرجوه برءاً ، فأعطاه بعض دواها ..
هو الخالق ، وقد جعل الطبيعة ، في الطليعة ، اسمها يتصدر القائمة ، وتكاليف العلاج على من براها ، فلن تضيع وقد قصدته ، ولن تذل وقد رجوته ، ولن تخيب وقد طلبته ...
فسبحان من أوجد الشقاء، ورزقنا سبل الراحة ، ومن أحلّ الداء ، وأراحنا منه بأن فتح لنا المساحة ، فكلنا على أرضه وتحت جناحه ، نتأمل في خلقه ، فهو للمؤمن سلاحُه ، ولكل باب مغلق مفتاحُه ، ولكل صدر مطبق فيه الإزاحة ، فكان هو الطبيب ، وهذا هو العلاج بكل وضوح وبمنتهى الصراحة ، فداء العبد شقاؤه ، ودواء الذاكر فلاحه ، وشفاء المؤمن صلاحه ... .
فذاك هو الباب ، ودونكم مفتاحه ... .