وهجُ الحياة
صوت المدينة - فوزية الشيخي
كنت حينها في المرحلة المتوسطة ولا زلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، عندما قامت إدارة المدرسة بعمل بازار للطالبات بغرض الترفيه عنهن وخصص يوم في تلك السنة لعمل ذلك.
كم كانت فرحتنا بالغة أنا وزميلاتي بذلك اليوم؛ كونه يوم مفتوح بعيد عن الدراسة والواجبات اليومية. تم عمل البازار ووضعت المدرسة حينها العديد من الأركان تشتمل على الكثير من الأشياء منها: التحف، والإكسسوارات، والأطعمة وغيرها الكثير من المعروضات، وكان من بين تلك الأركان ركن بعيد وبسيط للكتب، مررت على كل تلك الأركان لم تشدني لا الإكسسوارات ولا الأطعمة ولا التحف ولا غيرها مما كان معروضٌ حينها، لا أعلم لماذا قادتني قدماي إلى ذلك الركن البعيد عن بقية الأركان، وحينها تسمّرت قدماي أمامه، كان لا يقف بجانبه أحدٌ إلا أنا فقط وزميلة لي كانت تشدّني لأن نكمل المسير والتجوّل على بقية الأركان، ولكني رفضت أن أتحرك من مكاني ذاك وأخبرتها أن تذهب هي وتدعني بركن الكتب ذاك، وبالفعل تركتني وذهبتْ وبقيت انا أتفحّص تلك الكتب بعناية فائقة، وكان ذلك اليوم هو أول يوم بحياتي كلها التي أرى بها كتبًا حقيقية غير الكتب الدراسية.
بحثت بين تلك الكتب ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أمسك كتاب كان اسم مؤلفه: مصطفى لطفي المنفلوطي. وكان اسم الكتاب: " النظرات" طبعًا لم أكن أعلم من هو هذا الشخص، ولم أعرف عمَّ يتكلم الكتاب، ولكن الذي أعلمه جيدًا أنه شدّني بمجرد أن وقعت عيناي عليه، واخترته من ضمن عدة كتب. سألت عن ثمن الكتاب، وكان سعره حينها أحد عشر ريالًا ولم أكن املك منها إلا خمسة ريالات فقط وهي مصروفي بذلك الحين. أصريت إلا أن أقتنيه مهما كلف الأمر، طلبت من المعلمة التي كانت تقف على البيع أن تحجز لي هذا الكتاب، بينما أذهب انا للبحث عمن يقرضني باقي ثمن الكتاب، وبالفعل تم حجز الكتاب وذهبت مسرعة أبحث عن زميلتي لتقرضني الستة ريالات المتبقية؛ لأكمل ثمن الكتاب، وبالفعل أقرضتني المبلغ، يا لفرحتي حينها عندما حصلت على المبلغ، أخذت أسرع بكل قوتي نحو ذلك الركن وقلبي يخفق بسرعة؛ خوفًا من أن يكون الكتاب قد بيع، وصلت إلى الركن وأنا ألهث وأعطيت المعلمة باقي المبلغ، واعطتني الكتاب، وشعرت حينها بشعور لم أشعر به من قبل، حقيقة لا أعلم ماهيّة ذلك الشعور كان شعورًا مختلطًا غير واضح المعالم. بعدما أخذت الكتاب ذهبت أبحث عن مكان لأجلس فيه ولكن كل الأماكن بتلك المدرسة كانت مليئة، لم أجد إلا سلم المدرسة كان خاليًا وصعدت أعلى درجات السلم الذي يؤدي إلى الطابق العلوي للمدرسة، وجلست على درجاته مبتعدةً عن زحام الطالبات والمعلمات والجميع، مكتفية بكتابي أخذت أتصفح ذلك الكتاب الذي كان بين يدي بشغفٍ بالغ لم أشعر بمن حولي من الناس، ولم أكن مدركة بأن الوقت يمر وينساب بسرعة؛ إلا حينما سمعت إحدى الزميلات تناديني بصوت مرتفع: "لقد انتهى اليوم الدراسي ألا ترغبين بالمغادرة؟"
بعدها فقط شعرت وأفقت وكأنني كنت في غيبوبة اسمها الكتاب، وبعدها نهضت مسرعة نحو الباب مغادرة المدرسة، وكان لا يزال ذلك الكتاب بيدي ممسكة به ولم أدخله بحقيبتي.
انه الشغف الذي عشته بتلك اللحظات والذي تمت ولادته من اول يومٍ وقعت عيناي على كتاب. من ذلك اليوم إلى يومنا هذا قرأت الكثير من الكتب بجميع أنواعها وتصنيفاتها، شعرت أن للكتب دفء عجيب، أصبحت متعتي أن أشتري كتابًا جديدًا أو عدة كتب خلال فترات قصيرة جدا.
قرأت وقرأت ولا زلت أقرأ ولن أتوقف أبدًا، وجدت ضالّتي بالقراءة وجدت نفسي بالقراءة، وجدت عنفواني بالقراءة، وجدت تواضعي بالقراءة، وجدت شغفي الذي لا حدود له، وجدت حبّي للحروف والكلمات والجمل، وجدت فخامة الفكر بالقراءة وجدت كياني بالقراءة، أعطتني القراءة مالم يعطني إياه أي شيء آخر بالحياة، أعطتني العلم، أعطتني روح جديدة روح صافية بعيدة عن الزيف، أعطتني الوضوح والذي افادني كثيراً ، ميزتني القراءة بأشياء كثيرة جدًا، أصبحت روحي متوهجة وأنظر لها دائما بعلو، القراءة جعلتني دائمًا أجاهد نفسي بكل الوسائل والطرق للنهوض بها نحو السمو والرفعة، لا أنظر لذاتي بمنظار محدود الأفق، بل على العكس أصبحت انظر لتلك الذات بزهور.
هناك مقولة لمصطفى محمود: "القراءة هي أن تذهب خارج حدود الزمان والمكان."، ومقولة آرثر شوبنهاور: "لم تمر بي أبداً أي محنة في حياتي لم تخففها ساعة أقضيها في القراءة."
الكتاب آمنُ جَليس، وأَسرُّ أَنيس، وأَسلمُ نَديم، وأَفصَح كَليم، وقد وصَفه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال: "الكتاب نِعْمَ الذُّخْر والعقدَة، ونِعْمَ الأَنيس ساعَة الوحدة، ونِعْم القَرين، والدَّخيل، والوزير والنَّزيل."
يَقُول الجاحظ أيضًا في وصف الكتاب: "الْكِتَاب هُوَ الجَلِيس الذِي لا يطريك، والصَدِيق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَملّك، والمستمع الذي لا يَستزيدك، والجار الذي لا يستعطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عِندَك بالملق، ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق."
انها القراءة يا سادة ولا شيء يضاهي القراءة
كنت حينها في المرحلة المتوسطة ولا زلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، عندما قامت إدارة المدرسة بعمل بازار للطالبات بغرض الترفيه عنهن وخصص يوم في تلك السنة لعمل ذلك.
كم كانت فرحتنا بالغة أنا وزميلاتي بذلك اليوم؛ كونه يوم مفتوح بعيد عن الدراسة والواجبات اليومية. تم عمل البازار ووضعت المدرسة حينها العديد من الأركان تشتمل على الكثير من الأشياء منها: التحف، والإكسسوارات، والأطعمة وغيرها الكثير من المعروضات، وكان من بين تلك الأركان ركن بعيد وبسيط للكتب، مررت على كل تلك الأركان لم تشدني لا الإكسسوارات ولا الأطعمة ولا التحف ولا غيرها مما كان معروضٌ حينها، لا أعلم لماذا قادتني قدماي إلى ذلك الركن البعيد عن بقية الأركان، وحينها تسمّرت قدماي أمامه، كان لا يقف بجانبه أحدٌ إلا أنا فقط وزميلة لي كانت تشدّني لأن نكمل المسير والتجوّل على بقية الأركان، ولكني رفضت أن أتحرك من مكاني ذاك وأخبرتها أن تذهب هي وتدعني بركن الكتب ذاك، وبالفعل تركتني وذهبتْ وبقيت انا أتفحّص تلك الكتب بعناية فائقة، وكان ذلك اليوم هو أول يوم بحياتي كلها التي أرى بها كتبًا حقيقية غير الكتب الدراسية.
بحثت بين تلك الكتب ولم أشعر بنفسي إلا وأنا أمسك كتاب كان اسم مؤلفه: مصطفى لطفي المنفلوطي. وكان اسم الكتاب: " النظرات" طبعًا لم أكن أعلم من هو هذا الشخص، ولم أعرف عمَّ يتكلم الكتاب، ولكن الذي أعلمه جيدًا أنه شدّني بمجرد أن وقعت عيناي عليه، واخترته من ضمن عدة كتب. سألت عن ثمن الكتاب، وكان سعره حينها أحد عشر ريالًا ولم أكن املك منها إلا خمسة ريالات فقط وهي مصروفي بذلك الحين. أصريت إلا أن أقتنيه مهما كلف الأمر، طلبت من المعلمة التي كانت تقف على البيع أن تحجز لي هذا الكتاب، بينما أذهب انا للبحث عمن يقرضني باقي ثمن الكتاب، وبالفعل تم حجز الكتاب وذهبت مسرعة أبحث عن زميلتي لتقرضني الستة ريالات المتبقية؛ لأكمل ثمن الكتاب، وبالفعل أقرضتني المبلغ، يا لفرحتي حينها عندما حصلت على المبلغ، أخذت أسرع بكل قوتي نحو ذلك الركن وقلبي يخفق بسرعة؛ خوفًا من أن يكون الكتاب قد بيع، وصلت إلى الركن وأنا ألهث وأعطيت المعلمة باقي المبلغ، واعطتني الكتاب، وشعرت حينها بشعور لم أشعر به من قبل، حقيقة لا أعلم ماهيّة ذلك الشعور كان شعورًا مختلطًا غير واضح المعالم. بعدما أخذت الكتاب ذهبت أبحث عن مكان لأجلس فيه ولكن كل الأماكن بتلك المدرسة كانت مليئة، لم أجد إلا سلم المدرسة كان خاليًا وصعدت أعلى درجات السلم الذي يؤدي إلى الطابق العلوي للمدرسة، وجلست على درجاته مبتعدةً عن زحام الطالبات والمعلمات والجميع، مكتفية بكتابي أخذت أتصفح ذلك الكتاب الذي كان بين يدي بشغفٍ بالغ لم أشعر بمن حولي من الناس، ولم أكن مدركة بأن الوقت يمر وينساب بسرعة؛ إلا حينما سمعت إحدى الزميلات تناديني بصوت مرتفع: "لقد انتهى اليوم الدراسي ألا ترغبين بالمغادرة؟"
بعدها فقط شعرت وأفقت وكأنني كنت في غيبوبة اسمها الكتاب، وبعدها نهضت مسرعة نحو الباب مغادرة المدرسة، وكان لا يزال ذلك الكتاب بيدي ممسكة به ولم أدخله بحقيبتي.
انه الشغف الذي عشته بتلك اللحظات والذي تمت ولادته من اول يومٍ وقعت عيناي على كتاب. من ذلك اليوم إلى يومنا هذا قرأت الكثير من الكتب بجميع أنواعها وتصنيفاتها، شعرت أن للكتب دفء عجيب، أصبحت متعتي أن أشتري كتابًا جديدًا أو عدة كتب خلال فترات قصيرة جدا.
قرأت وقرأت ولا زلت أقرأ ولن أتوقف أبدًا، وجدت ضالّتي بالقراءة وجدت نفسي بالقراءة، وجدت عنفواني بالقراءة، وجدت تواضعي بالقراءة، وجدت شغفي الذي لا حدود له، وجدت حبّي للحروف والكلمات والجمل، وجدت فخامة الفكر بالقراءة وجدت كياني بالقراءة، أعطتني القراءة مالم يعطني إياه أي شيء آخر بالحياة، أعطتني العلم، أعطتني روح جديدة روح صافية بعيدة عن الزيف، أعطتني الوضوح والذي افادني كثيراً ، ميزتني القراءة بأشياء كثيرة جدًا، أصبحت روحي متوهجة وأنظر لها دائما بعلو، القراءة جعلتني دائمًا أجاهد نفسي بكل الوسائل والطرق للنهوض بها نحو السمو والرفعة، لا أنظر لذاتي بمنظار محدود الأفق، بل على العكس أصبحت انظر لتلك الذات بزهور.
هناك مقولة لمصطفى محمود: "القراءة هي أن تذهب خارج حدود الزمان والمكان."، ومقولة آرثر شوبنهاور: "لم تمر بي أبداً أي محنة في حياتي لم تخففها ساعة أقضيها في القراءة."
الكتاب آمنُ جَليس، وأَسرُّ أَنيس، وأَسلمُ نَديم، وأَفصَح كَليم، وقد وصَفه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال: "الكتاب نِعْمَ الذُّخْر والعقدَة، ونِعْمَ الأَنيس ساعَة الوحدة، ونِعْم القَرين، والدَّخيل، والوزير والنَّزيل."
يَقُول الجاحظ أيضًا في وصف الكتاب: "الْكِتَاب هُوَ الجَلِيس الذِي لا يطريك، والصَدِيق الذي لا يقليك، والرفيق الذي لا يَملّك، والمستمع الذي لا يَستزيدك، والجار الذي لا يستعطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عِندَك بالملق، ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق."
انها القراءة يا سادة ولا شيء يضاهي القراءة
موضوع جميل وذكريات أجمل*
حقا خير جليس في الأنام كتاب .
وماكان جمال هذا الأسلوب وروعة هذا الطرح الا حصيلة ثقافة عالية واطلاع واسع لا يتم الا بالقراءة ...
كم أنت رائعة استاذة فوزية حتى ذكرياتك راقية وهادفة وذات طابع محبب وسامي.