• ×
الجمعة 22 نوفمبر 2024

الشعر المظلوم

بواسطة الكاتب : أحمد عبدالله واعظ 03-26-2019 08:43 صباحاً 674 زيارات
عندما يطرق الأسماعَ الشعرُ الجاهلي، تنصرفُ الأذهانُ إلى "مكر مفر مقبل مدبر معا" وكأن ذلك الشعر برمته مرادفٌ لبيت امرئ القيس أو لأبيات من معلقته.

حدّث أحدا عن هذا الشعر، ثم تمعن في نظرته التي يرنو بها إليك!! وكأنك تُلقي إليه أخبارا عن الكهوف الجبلية وتُسمعه أنباء عن المنحوتات الصخرية!!

لماذا هذا الازورار عن ذاك الأدب؟ حتى لا يُعبأ به إلا في أروقة الجامعات وفصول الدراسة، ولا يكاد يَلتفتُ إليه إلا أهل الشأن والاختصاص!!

لا ريب بأننا سنغض الطرف، إن كان الإزراءُ بهذا الشعر والاستهجانُ منه، يصدران عن أقوام لا علاقة لهم بالعلم والأدب، بيد أن الأمر يأخذُ نهجا مغايرا، حال ما نرى علائمَ الاستنكار ومخايلَ التبرم من هذا الفن المتجدد، باديةً على وجوه أقوام منتسبين إلى الأدب بصلات وإلى الثقافة بوشائج.

وإذا ما أردتَ أن تستهل قولا متعلقا به في مجلسِ علم، أو ليلةِ سمر تجمعك بمن تحب، أحسستَ بنوع خجلٍ يعتريك، خشيةَ السخريةِ منك والتهكم من معارفك.

تتوارد إلى ذهني هذه الخطرات، فأسرحُ بخيالي في أودية القصائد الجاهلية - التي تحضرني - وأجولُ في آفاقها الشعرية الفائقة... مقدماتٌ طللية تهيجُ النفس، وصورٌ بيانية تأخذُ بالألباب، ونفثاتٌ مصدور تشجي الفؤاد.

فهذا عنترةُ بن شداد، فارسُ عبس وشاعرُها، يذكر محبوبتَه عبلة، وظعْنَها عن الديار، ويشبه رائحةَ فمِها بمسْكِ تاجرٍ، وعبيرَ ثغرِها بروضة، أصاب زرعَها مطرٌ خفيفٌ، ففاحَ شذاها في الأرجاء، ثم أسهب في الإحاطة بها بمشاهدَ "فوتوغرافية" دقيقة، فتروعُك وتدهشُك قدراتُه التصويرية:

وكأن فارةَ تاجرٍ بقسيمة
سبقتْ عوارضَها إليك من الفم

أو روضةً أنُفًا تضمَّن نبتَها
غيثٌ قليلُ الدِّمن ليس بمعلم

جادتْ عليها كلُّ بكرٍ ثرَّة
فتركْنَ كلَّ حديقةٍ كالدرهم

سحًّا وتسكابًا فكلَّ عشيةٍ
يجري عليها الماءُ لم يتصرَّم

ومن عجائب الشعراء في أشعارِهم، وحسن تأتِّيهم في القولِ، تزيينُ القبيح، حتى تبصره جميلا في سياقه الذي وضعه فيه القائل، فأنت ترى الذباب خلت له الروضة، فصار يسرح فيها مغرِّدا كما يحلو له:

وخلا الذبابُ بها فليس ببارحٍ
غرِدًا كفعل الشاربِ المترنِّم

هزِجًا يحكُّ ذراعَه بذراعه
قدحَ المُكِبّ على الزنادِ الأجْذم

عند ما نصل إلى هذا الموضع، متأملين المناظرَ والأشياءَ التي أبدعها خيالُه الخصب، نسلِّم مذعنين بأن بيانه أدق وأنفذ من عدسات التصوير الحديثة!!

ولنننظر إلى الحارث بن حلزة اليشكري، وهو يضطرب ويتفطر قلبه من هول الموقف، حين ما حان رحيل حبيبته، فأرسل بيتا منسقا، به مسحة حزن ولوعة الفراق، يهزُّك جرسُه وتنبه أحاسيسَك موسيقاه:

آذنتْنا ببَيْنها أسماءُ
رب ثاوٍ يُملُّ منه الثَواءُ

وإلى عبد يغوث الحارثي، أحد سادة القبيلة وفرسانها المعدودين، وهو يتوسل إلى الصبيين - اللذَين وقع في أسرهما وكانا يلومانه ويسخران منه - وما زال الشاعر النبيل يستعطفهما، وما زال يتألم من وخز الضمير، لمتابعته القوم في حرب جائرة خاضها ضدَ قبيلة تميم المنهكة :

ألا لا تلوماني كفى اللومَ ما بِيا
وما لكما في اللوم خيرٌ ولا لِيا

ألمْ تعلما أن الملامةَ نفعُها
قليلٌ وما لومي أخي من شِماليا

حاول عميد الأدب العربي طه حسين، أن ينقض هذا الشعر العالي بمعول الشك... رمى رواته بالوضع والانتحال، فأعياه الأمر ثم تلبث إزاءه مبهوتا، بل لم يكد يمضي على دعواه التي شايع فيها مرجليوث ثمان سنوات، حتى خرج إلى الناس معلنا في كتابه "حديث الأربعاء ج١"*بأسلوب التضمين لا التصريح، رجوعَه عن ما سلف منه، بل صار يدافع وينافح عنه في صلابة.

يقول محمد البيومي: "دفاع الدكتور طه حسين عن الشعر الجاهلي قد بلغ من الحرارة والقوة والتحدي، مبلغا يلفت الأنظار، ويدعو إلى التأمل".

وجدَ الشعر الجاهلي ليس كالشعر، على بساطته في المعاني، وسذاجته - إن شئنا - وهو تعبير استعرناه من العميد نفسِه، ولا يَقصدُ به الانتقاص وإنما الوصف، بل خاطب صديقَه قائلا: "نحبُّ لأدبنا القديم أن يظل في هذا العصر الحديث كما كان من قبل، ضرورةً من ضرورات الحياة العقلية، وأساسا من أسس الثقافة، وغذاءً للعقول والقلوب".

جديد المقالات

الإداري الناجح اليوم يجب أن يتمتع بعدة مهارات وخصائص. أولاً : القدرة على التكيف مع التغيرات...

قصيدة بمناسبة اليوم الوطني السعودي من يلمني في هواه أَأُلام بعشقي لترابِه زاد أمني في...

قصيدة بمناسبة اليوم الوطني يا وطني يا تاج العز علا هامي والكل يراه يا وطني أفديك بروحي...

تلعب الإدارة الناجحة دورًا حاسمًا في نمو ونجاح أي منظمة. لأنها تنطوي على مزيج من التواصل الفعال ،...

لم تخلق الجهات الأربع عبثاً؟! إنها إشارة إلى حرية أن يكون لنا خيارات في هذه الوسيعه حين نقف...

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • ايوب محب الدين واعظ
    03-26-2019 01:56 مساءً
    ربنا يزيدك ي اخويا
  • زائر
    03-26-2019 02:52 مساءً
    جميل جداً ماسطرتهُ أناملك أستمر
أكثر