محرقة الوزراء !
صوت المدينة - فواز ناصـر
بدأت القصة بلا تخطيطٍ وبلا مقدمات ، بين الأرض وبين السماء ، بين ولي العهد - حينها - الأمير فهد بن عبدالعزيز و الدكتور غازي القصيبي - رحمهما الله - على متن طائرة عائدة من مؤتمر عربي إلى الرياض في خريف سنة 1981 م .
وبعد أن قرر ولي العهد بنفسه أن يتولى زمام وزارة الصحة - أثناء حديثه مع الدكتور غازي في صالون الطائرة- بعدما أصابه اليأس من هذه الوزارة التي ترفض مواكبة التنمية . قال له الدكتور غازي القصيبي :" إذا وصلت الأمور إلى هذا المرحلة ، فلماذا لا تبدأ بخيار آخر ؟ " قال الملك : " ماذا تقصد ؟ " قال الدكتور غازي:" أنا رهن إشارتك.. دعني أحاول " .
من هنا إنطلق الدكتور غازي في تحدٍ جديد وصعب للغاية أمام وزارة عصيّة جعلت الوزراء يحترقون فيها !
في بداية التحدي اتضح للدكتور غازي بأن العقبة الرئيسية التي حالت دون تطوير وزارة الصحة هي ( عدم الانضباط ).
أما العقبة الثانية ، كانت تعود إلى أن المراكز القيادية في وزارة الصحة لم تتغير عبر أكثر من ربع قرن رغم تغير الوزراء المتكرر .
والدكتور يرى بأن خمس سنوات كافية للجلوس على كرسي الإدارة ، إلا في حالات استثنائية فقط ، هي من تتحدث عن نفسها على أرض الواقع !
المتربع على كرسي الإدارة سنين طِوال، قد لا يفتقر إلى النزاهة أو الكفاءة أو الإخلاص ، ولكن مشكلته تكمن في النهج المعين من التفكير ، الذي يصعب عليه تغييره! يقول الدكتور غازي القصيبي :" محاولة تطبيق أفكار جديدة بواسطة رجال يعتنقون أفكاراً قديمة هي مضيعة للوقت والجهد " .
من هنا - بنظري - قد نعرف أسباب البيروقراطية المتفشية في أجهزتنا الحكومية ، بل في حياتنا اليومية !
تذمر الناس من خدمات وزارة الصحة - على حد قوله - هي ظاهرة عالمية تشمل كافة الدول النامية / الصناعية على حد سواء. مع الأخذ بفارق الوقت الذي بيننا وبين هذا القول !
يتطرق الدكتور غازي القصيبي لأهم العوامل التي تزيد التعقيد في وزارة الصحة في المملكة على رأسها: التعاقد بسرعة يستحيل معها فرز العناصر الصالحة من الطالحة.
ومن هنا أصدر قراره- رحمه الله - بعدم التعاقد مع أي طبيب إلا بعد امتحان طبي كتابي. ولك ايه القارئ أن تتساءل!
يقول رحمه الله :" عندما يكون الطبيب من باكستان ، والممرضة من الفلبين ، وإخصائي المختبر من تايلاند، نصبح أمام مجموعة يصعب عليها التخاطب بشكل مباشر فضلاً عن العمل بروح الفريق الواحد "
كما " أن الرغبة الجامحة في الحصول على قدر من المال يكفي للعودة إلى الوطن ويضمن الاستقرار فيه ؛ تجعل الطبيب أو الممرض المتعاقد عرضة لإغراءات لا يتعرض لها الطبيب أو الممرض السعودي " أيضاً :" حجم المملكة الهائل وتشعب جغرافيتها يجعل من العسير على المركز في الرياض أن يمارس الرقابة الفعالة المطلوبة في الأطراف ".
هل تكمن المشكلة في التعاقد كما أشار لها الدكتور أم في أخلاقيات المهنة ، مع إكمال كافة حقوق المتعاقد/ المتعاقدة ، طبيباً كان أم ممرضة .. ؟
من تجربة واقعية ليست ببعيدة جداً ، جرت تفاصيلها أمام مقلتيّ ، أعتقد بأن أخلاقيات المهنة تأتي في أعلى سلم النزاهة العملية. ومن ثمّ يأتي دور الرقابة الصارمة والقوانين الواضحة مع شرط إكتفاء الحقوق لكافة الأطراف.
أما الجغرافية الشاسعة فقد تحل مشكلتها نظرية التخصيص ، ومراقبة المواطنين ، " إن المواطنين يشكلون هيئة رقابة فعالة على أعمال الوزارة وموظفيها. المواطن الذي يراجع الوزير متظلماً من أن معاملته معطلة منذ أسابيع في قسم ما ؛ يعطي الوزير فكرة واضحة عن كفاءة هذا القسم ".
لكن الفرق بين المواطن العربي والمواطن في الدول الصناعية هو ما يحدث الفرق في التطور بين الدول :" هناك جهات يمكن أن يلجأ إليها المواطن في الدول الصناعية الذي يتظلم من سوء الخدمات الصحية . فهناك اولاً : المحاكم : كل مريض يعتقد بأن الطبيب أهمل في علاجه يرفع قضية مطالباً فيها بتعويض ضخم. ثانيا ً : نقابات الأطباء. لا تستطيع نقابة التساهل مع إجرام يسيء إلى سمعة النقابة كلها . شطب الاسم من النقابة ، سيف مصلت على رأس الطبيب ، بمعنى : أن هناك رقابة يومية مستمرة "
وثالثاً : " وسائل الإعلام المتأهبة للانقضاض ".
أما لدينا " لا تكاد توجد أمام المواطن المتظلم سوى وزارة الصحة . لا توجد نقابات فعالة ، ولم يتعود الناس رفع قضايا ضد الأطباء المهملين، وهناك خطوط حمراء لا تستطيع وسائل الإعلام تجاوزها "
قد تطرق الدكتور غازي القصيبي إلى أمور إدارية ذات أهمية قصوى ، لا أراها - وأنا ذو باعٍ طويل في العمل الإداري- مترجمة في أرضية الواقع الإداري ، بل على النقيض، فكل ما حذر منه في كتابه ( حياة في الإدارة ) أراه مترجماً وجلياً أمامي!
وهذا لا يعني بأن الفن الإداري عصيّاً علينا كسعوديين ، بل إن ما نحتاجه هو ( الوعي ) في كافة أنواعه الإدارية والقانونية... الخ.
ووزارة الصحة ليست إلا أنموذجاً - حينما تحدث عنها الدكتور غازي بشكلٍ طويل في كتابه - من خلاله نقيس كفاءة الأجهزة الحكومية الأخرى.
والإداري الناجح بنظري هو من يقرأ كثيراً عن عمله أو مهمته الذي وُضِعَ فيه ، أو كلف بها ، مع تجديده لكل قديم بالي ، وتطوير كل ماهو نافع.
بإمكان من يتطلع للقيادة بأن يكون كتاب ( حياة في الإدارة ) محطة قرائية أولية له ، فالدكتور غازي رحمه الله غني بالخبرة الإدارية والذكاء الإداري .
بدأت القصة بلا تخطيطٍ وبلا مقدمات ، بين الأرض وبين السماء ، بين ولي العهد - حينها - الأمير فهد بن عبدالعزيز و الدكتور غازي القصيبي - رحمهما الله - على متن طائرة عائدة من مؤتمر عربي إلى الرياض في خريف سنة 1981 م .
وبعد أن قرر ولي العهد بنفسه أن يتولى زمام وزارة الصحة - أثناء حديثه مع الدكتور غازي في صالون الطائرة- بعدما أصابه اليأس من هذه الوزارة التي ترفض مواكبة التنمية . قال له الدكتور غازي القصيبي :" إذا وصلت الأمور إلى هذا المرحلة ، فلماذا لا تبدأ بخيار آخر ؟ " قال الملك : " ماذا تقصد ؟ " قال الدكتور غازي:" أنا رهن إشارتك.. دعني أحاول " .
من هنا إنطلق الدكتور غازي في تحدٍ جديد وصعب للغاية أمام وزارة عصيّة جعلت الوزراء يحترقون فيها !
في بداية التحدي اتضح للدكتور غازي بأن العقبة الرئيسية التي حالت دون تطوير وزارة الصحة هي ( عدم الانضباط ).
أما العقبة الثانية ، كانت تعود إلى أن المراكز القيادية في وزارة الصحة لم تتغير عبر أكثر من ربع قرن رغم تغير الوزراء المتكرر .
والدكتور يرى بأن خمس سنوات كافية للجلوس على كرسي الإدارة ، إلا في حالات استثنائية فقط ، هي من تتحدث عن نفسها على أرض الواقع !
المتربع على كرسي الإدارة سنين طِوال، قد لا يفتقر إلى النزاهة أو الكفاءة أو الإخلاص ، ولكن مشكلته تكمن في النهج المعين من التفكير ، الذي يصعب عليه تغييره! يقول الدكتور غازي القصيبي :" محاولة تطبيق أفكار جديدة بواسطة رجال يعتنقون أفكاراً قديمة هي مضيعة للوقت والجهد " .
من هنا - بنظري - قد نعرف أسباب البيروقراطية المتفشية في أجهزتنا الحكومية ، بل في حياتنا اليومية !
تذمر الناس من خدمات وزارة الصحة - على حد قوله - هي ظاهرة عالمية تشمل كافة الدول النامية / الصناعية على حد سواء. مع الأخذ بفارق الوقت الذي بيننا وبين هذا القول !
يتطرق الدكتور غازي القصيبي لأهم العوامل التي تزيد التعقيد في وزارة الصحة في المملكة على رأسها: التعاقد بسرعة يستحيل معها فرز العناصر الصالحة من الطالحة.
ومن هنا أصدر قراره- رحمه الله - بعدم التعاقد مع أي طبيب إلا بعد امتحان طبي كتابي. ولك ايه القارئ أن تتساءل!
يقول رحمه الله :" عندما يكون الطبيب من باكستان ، والممرضة من الفلبين ، وإخصائي المختبر من تايلاند، نصبح أمام مجموعة يصعب عليها التخاطب بشكل مباشر فضلاً عن العمل بروح الفريق الواحد "
كما " أن الرغبة الجامحة في الحصول على قدر من المال يكفي للعودة إلى الوطن ويضمن الاستقرار فيه ؛ تجعل الطبيب أو الممرض المتعاقد عرضة لإغراءات لا يتعرض لها الطبيب أو الممرض السعودي " أيضاً :" حجم المملكة الهائل وتشعب جغرافيتها يجعل من العسير على المركز في الرياض أن يمارس الرقابة الفعالة المطلوبة في الأطراف ".
هل تكمن المشكلة في التعاقد كما أشار لها الدكتور أم في أخلاقيات المهنة ، مع إكمال كافة حقوق المتعاقد/ المتعاقدة ، طبيباً كان أم ممرضة .. ؟
من تجربة واقعية ليست ببعيدة جداً ، جرت تفاصيلها أمام مقلتيّ ، أعتقد بأن أخلاقيات المهنة تأتي في أعلى سلم النزاهة العملية. ومن ثمّ يأتي دور الرقابة الصارمة والقوانين الواضحة مع شرط إكتفاء الحقوق لكافة الأطراف.
أما الجغرافية الشاسعة فقد تحل مشكلتها نظرية التخصيص ، ومراقبة المواطنين ، " إن المواطنين يشكلون هيئة رقابة فعالة على أعمال الوزارة وموظفيها. المواطن الذي يراجع الوزير متظلماً من أن معاملته معطلة منذ أسابيع في قسم ما ؛ يعطي الوزير فكرة واضحة عن كفاءة هذا القسم ".
لكن الفرق بين المواطن العربي والمواطن في الدول الصناعية هو ما يحدث الفرق في التطور بين الدول :" هناك جهات يمكن أن يلجأ إليها المواطن في الدول الصناعية الذي يتظلم من سوء الخدمات الصحية . فهناك اولاً : المحاكم : كل مريض يعتقد بأن الطبيب أهمل في علاجه يرفع قضية مطالباً فيها بتعويض ضخم. ثانيا ً : نقابات الأطباء. لا تستطيع نقابة التساهل مع إجرام يسيء إلى سمعة النقابة كلها . شطب الاسم من النقابة ، سيف مصلت على رأس الطبيب ، بمعنى : أن هناك رقابة يومية مستمرة "
وثالثاً : " وسائل الإعلام المتأهبة للانقضاض ".
أما لدينا " لا تكاد توجد أمام المواطن المتظلم سوى وزارة الصحة . لا توجد نقابات فعالة ، ولم يتعود الناس رفع قضايا ضد الأطباء المهملين، وهناك خطوط حمراء لا تستطيع وسائل الإعلام تجاوزها "
قد تطرق الدكتور غازي القصيبي إلى أمور إدارية ذات أهمية قصوى ، لا أراها - وأنا ذو باعٍ طويل في العمل الإداري- مترجمة في أرضية الواقع الإداري ، بل على النقيض، فكل ما حذر منه في كتابه ( حياة في الإدارة ) أراه مترجماً وجلياً أمامي!
وهذا لا يعني بأن الفن الإداري عصيّاً علينا كسعوديين ، بل إن ما نحتاجه هو ( الوعي ) في كافة أنواعه الإدارية والقانونية... الخ.
ووزارة الصحة ليست إلا أنموذجاً - حينما تحدث عنها الدكتور غازي بشكلٍ طويل في كتابه - من خلاله نقيس كفاءة الأجهزة الحكومية الأخرى.
والإداري الناجح بنظري هو من يقرأ كثيراً عن عمله أو مهمته الذي وُضِعَ فيه ، أو كلف بها ، مع تجديده لكل قديم بالي ، وتطوير كل ماهو نافع.
بإمكان من يتطلع للقيادة بأن يكون كتاب ( حياة في الإدارة ) محطة قرائية أولية له ، فالدكتور غازي رحمه الله غني بالخبرة الإدارية والذكاء الإداري .