إلقاء النكات والمزاح هُجنة أم سُنة ؟
صوت المدينة / نسرين التركي
انتشرت النكتة في المجتمع السعودي في الفترة الأخيرة بشكلٍ ملفتٍ للنظر، من حيث حبكتها، وأساليبها، وسرعة انتشارها، وتداولها المتزايد؛ فلا تمر مناسبةٌ، أو حدثٌاجتماعيٌ إلا وتنهال عليك الرسائل الفكاهية الساخرة إما بخصوص الإجازة، أو بزيادة الرواتب، أو المعلمين والمعلمات، أو غيرها.
ولا شك بأن النكتة تُنبئ عن حالةٍ يعيشها المواطن، وقد تكون أهداف النكتة أبعد من ذلك بكثير!
فهل النكتة تقتصر على إثارة الفكاهة والضحك فقط؟ أم لها مرامي أخرى قد خفيت علينا؟
إن المستعرض للنكت المتداولة يلحظ فيها نسبة عالية من الانهزامية النفسية، والتذمر، والشكوى، وتضخيم السلبيات بشكل يصف بلادنا بالتخلف، والهمجية، والفشل.
فهل تخدر وعينا لدرجة أننا قبلنا على أنفسنا أن نكون موضعًا للسخرية، وأنموذجًا للفكاهة ؟ أم هي حالةٌ من الإحباط التي تصف أوضاعنا البائسة بأنها أقرب ما يكون للنكتة؟
نعم، من الجميل أن نضحك، ولكن الأجمل أن لا نضحك على أنفسنا!
إن الشخص الواعي يعلم تمامًا أن الأمر أبعد من مجرد تنفيس عن الكبت والضغوط؛ فلقد ساهمت النكتة في بث الغفلة، والتخدير المؤقت حول تقبل الصورة المشوهة نحو أبناء مجتمعنا، وبالذات نحو مستواهم الثقافي والفكري والسلوكي، إننا قد نساهم بدون أن نشعر في مساندة الغزو الثقافي والفكري ، وتعميق الصورة السلبية تُجاه أنفسنا وبلادنا وأجيالنا القادمة بمسوغ الضحك والفكاهة، وإن انتقاء ما نقرأ مهم جدًا للحفاظ على سلامة تفكيرنا الذي يُشكل سلوكياتنا فيما بعد، فالشخص الذي يتداول أفكارًا سلبية عن نفسه ومجتمعه وبلاده، سينهج تدريجياً ذلك التصور السلبي، ويتقبّله حتى يصبح لديه مألوفًا.
كما تكمن خطورة النكتة في أنك لا تعرف مصدرها ولا من الذي ألقاها، بالإضافة إلى انتشارها السريع!
يقول الإعلامي المصري أحمد الباز في كتابه (نكت السيد الرئيس) -واصفًا أثر النكت على سياسة الحُكّام والرؤساء والقرارات السياسية -: "لا تستهين بدور المهرج هذا ، فقد قام في تاريخ مصر بمهامٍ ثقيلة، وكانت هذه الكارثة خاصة عندما كان يعتقد الرئيس –أي رئيس- أن المهرج أهم بكثير من مستشاريه المتخصصين، وأخلص له، وهذه حكاية طويلة مؤكد أنك ستقابلها في الصفحات القادمة"، وحكى عن بعض الرؤساء الذي كانوا يُطالبون الاستخبارات بتقارير عن النكات المتداولة في عهدهم.
وإن تنبهنا الآن إلى آثار النكتة الهدّامة فهل بالإمكان تفعيلها بشكل إيجابي؟
مؤكد بأن (النكتة) مطلبٌ للترويح، وتلطيف الأجواء، وتقارب النفوس وتآلفها ، كما تعتبر (النكتة) فنًا من فنون النقد الذي يتركز فيه الانتقاد، وبشكل غير مباشر يستدعي التفكير حوله، وله سُلطةً وتأثيرًا واضحًا كما أسلفنا، وكان لكبار الأدباء قديمًا اهتمام بها، ولو قارنا واقع الطرفة الآن مع واقعها التاريخي قديمًا بالنظر إلى مؤلفات الجاحظ مثلا في (البخلاء) أو إلى مؤلفات ابن الجوزي في كتابيه (أخبار الحمقى والمغفلين) و (الأذكياء) لوجدنا بأن الطرفة على مستوى راقي من الأدب وتهدف إلى قيم تربوية نافعة تشحذ الأذهان ، وفي هذا يقول الجاحظ : "ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جُعل له الضحك، صار المزح جِدًا ، والضحك وقارًا" [1]
فمنها ما يُعلّمك حُسن الرد:
"قال رجل لرجل" إن لطمتك لأبلغنّ بك المدينة!
فرد عليه: فأحب أن تتبعها بأخرى لعل الله يرزقني الحج على يديك".
ومنها ما يكون لتقريب القلوب، وتلطيف الأجواء:
"قال رجل لأعرابي: ما اسمك؟ قال: فرات بن البحر بن الفياض ، قال: فما كنيتك؟ قال: أبو الغيث، قال الرجل: بأبي أنت ينبغي أن نُلقي فيك زورقًا وإلا غرقنا!".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك مع أصحابه ويُمازحهم، حتى قال الصحابة : "يا رسول الله ، إنك تداعبنا" ، قال: نعم، غير أني لا أقول إلا حقًا". [2]
وسُئل عمر –رضي الله عنه- هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل" [3]
وسأل رجل سفيان بن عيينة فقال: المُزاح هُجنة – أي مستنكر-؟
قال: "بل هو سنة، لكن لم يحسنه ويضعه في موضعه". [4]
ويقول الإمام الغزالي – رحمة الله – عن أدب المزاح: " إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً، ولا تؤذى قلباً، ولا تفرط فيه، وتقتصر أحياناً على الندور فلا حرج عليك، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يغفل عن هذا ..." [5]
إنه من الممكن أن تُوظف النكتة بشكل يُساهم في رفع مستوى الثقافة العامة، والذوق الأدبي، وتسييرها لخدمة الصالح العام، كما أنه من السهل أن تُؤَلف النكت بكلمات بذيئة، وأساليب ركيكة ، لكنها حتمًا لن تكون بالمستوى الذي يُضيف لك الكثير، وفي المقابل فإن الأمر يحتاج إلى جهد أكثر بقليل لتبتكر نكتة ترسم بسمة، وتغرس فائدة ومتعة!
[1] البخلاء، للجاحظ: ص 23.
[2] جامع الترمذي: ح 1990، صححه الألباني.
[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصبهاني: ح 1128.
[4] اللطائف والظرائف، للثعالبي: ص 151.
[5] إحياء علوم الدين: 3/ 129.
للتصويت للمقال الذهاب الرئيسية واتباع التالي
انتشرت النكتة في المجتمع السعودي في الفترة الأخيرة بشكلٍ ملفتٍ للنظر، من حيث حبكتها، وأساليبها، وسرعة انتشارها، وتداولها المتزايد؛ فلا تمر مناسبةٌ، أو حدثٌاجتماعيٌ إلا وتنهال عليك الرسائل الفكاهية الساخرة إما بخصوص الإجازة، أو بزيادة الرواتب، أو المعلمين والمعلمات، أو غيرها.
ولا شك بأن النكتة تُنبئ عن حالةٍ يعيشها المواطن، وقد تكون أهداف النكتة أبعد من ذلك بكثير!
فهل النكتة تقتصر على إثارة الفكاهة والضحك فقط؟ أم لها مرامي أخرى قد خفيت علينا؟
إن المستعرض للنكت المتداولة يلحظ فيها نسبة عالية من الانهزامية النفسية، والتذمر، والشكوى، وتضخيم السلبيات بشكل يصف بلادنا بالتخلف، والهمجية، والفشل.
فهل تخدر وعينا لدرجة أننا قبلنا على أنفسنا أن نكون موضعًا للسخرية، وأنموذجًا للفكاهة ؟ أم هي حالةٌ من الإحباط التي تصف أوضاعنا البائسة بأنها أقرب ما يكون للنكتة؟
نعم، من الجميل أن نضحك، ولكن الأجمل أن لا نضحك على أنفسنا!
إن الشخص الواعي يعلم تمامًا أن الأمر أبعد من مجرد تنفيس عن الكبت والضغوط؛ فلقد ساهمت النكتة في بث الغفلة، والتخدير المؤقت حول تقبل الصورة المشوهة نحو أبناء مجتمعنا، وبالذات نحو مستواهم الثقافي والفكري والسلوكي، إننا قد نساهم بدون أن نشعر في مساندة الغزو الثقافي والفكري ، وتعميق الصورة السلبية تُجاه أنفسنا وبلادنا وأجيالنا القادمة بمسوغ الضحك والفكاهة، وإن انتقاء ما نقرأ مهم جدًا للحفاظ على سلامة تفكيرنا الذي يُشكل سلوكياتنا فيما بعد، فالشخص الذي يتداول أفكارًا سلبية عن نفسه ومجتمعه وبلاده، سينهج تدريجياً ذلك التصور السلبي، ويتقبّله حتى يصبح لديه مألوفًا.
كما تكمن خطورة النكتة في أنك لا تعرف مصدرها ولا من الذي ألقاها، بالإضافة إلى انتشارها السريع!
يقول الإعلامي المصري أحمد الباز في كتابه (نكت السيد الرئيس) -واصفًا أثر النكت على سياسة الحُكّام والرؤساء والقرارات السياسية -: "لا تستهين بدور المهرج هذا ، فقد قام في تاريخ مصر بمهامٍ ثقيلة، وكانت هذه الكارثة خاصة عندما كان يعتقد الرئيس –أي رئيس- أن المهرج أهم بكثير من مستشاريه المتخصصين، وأخلص له، وهذه حكاية طويلة مؤكد أنك ستقابلها في الصفحات القادمة"، وحكى عن بعض الرؤساء الذي كانوا يُطالبون الاستخبارات بتقارير عن النكات المتداولة في عهدهم.
وإن تنبهنا الآن إلى آثار النكتة الهدّامة فهل بالإمكان تفعيلها بشكل إيجابي؟
مؤكد بأن (النكتة) مطلبٌ للترويح، وتلطيف الأجواء، وتقارب النفوس وتآلفها ، كما تعتبر (النكتة) فنًا من فنون النقد الذي يتركز فيه الانتقاد، وبشكل غير مباشر يستدعي التفكير حوله، وله سُلطةً وتأثيرًا واضحًا كما أسلفنا، وكان لكبار الأدباء قديمًا اهتمام بها، ولو قارنا واقع الطرفة الآن مع واقعها التاريخي قديمًا بالنظر إلى مؤلفات الجاحظ مثلا في (البخلاء) أو إلى مؤلفات ابن الجوزي في كتابيه (أخبار الحمقى والمغفلين) و (الأذكياء) لوجدنا بأن الطرفة على مستوى راقي من الأدب وتهدف إلى قيم تربوية نافعة تشحذ الأذهان ، وفي هذا يقول الجاحظ : "ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جُعل له الضحك، صار المزح جِدًا ، والضحك وقارًا" [1]
فمنها ما يُعلّمك حُسن الرد:
"قال رجل لرجل" إن لطمتك لأبلغنّ بك المدينة!
فرد عليه: فأحب أن تتبعها بأخرى لعل الله يرزقني الحج على يديك".
ومنها ما يكون لتقريب القلوب، وتلطيف الأجواء:
"قال رجل لأعرابي: ما اسمك؟ قال: فرات بن البحر بن الفياض ، قال: فما كنيتك؟ قال: أبو الغيث، قال الرجل: بأبي أنت ينبغي أن نُلقي فيك زورقًا وإلا غرقنا!".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك مع أصحابه ويُمازحهم، حتى قال الصحابة : "يا رسول الله ، إنك تداعبنا" ، قال: نعم، غير أني لا أقول إلا حقًا". [2]
وسُئل عمر –رضي الله عنه- هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظم من الجبل" [3]
وسأل رجل سفيان بن عيينة فقال: المُزاح هُجنة – أي مستنكر-؟
قال: "بل هو سنة، لكن لم يحسنه ويضعه في موضعه". [4]
ويقول الإمام الغزالي – رحمة الله – عن أدب المزاح: " إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً، ولا تؤذى قلباً، ولا تفرط فيه، وتقتصر أحياناً على الندور فلا حرج عليك، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه، ثم يتمسك بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أن يغفل عن هذا ..." [5]
إنه من الممكن أن تُوظف النكتة بشكل يُساهم في رفع مستوى الثقافة العامة، والذوق الأدبي، وتسييرها لخدمة الصالح العام، كما أنه من السهل أن تُؤَلف النكت بكلمات بذيئة، وأساليب ركيكة ، لكنها حتمًا لن تكون بالمستوى الذي يُضيف لك الكثير، وفي المقابل فإن الأمر يحتاج إلى جهد أكثر بقليل لتبتكر نكتة ترسم بسمة، وتغرس فائدة ومتعة!
[1] البخلاء، للجاحظ: ص 23.
[2] جامع الترمذي: ح 1990، صححه الألباني.
[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للأصبهاني: ح 1128.
[4] اللطائف والظرائف، للثعالبي: ص 151.
[5] إحياء علوم الدين: 3/ 129.
للتصويت للمقال الذهاب الرئيسية واتباع التالي